Loading... calender -- clock -- location الرياض

الأوربيون واللغة العربية

الأوربيون واللغة العربية

حجاج سلامة

في كتابه "تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا"، نجح المستشرقٌ النمساوي، وعالمُ اللُغَويات، يوسف جيرا، في سد بعض الفراغ الناتج عن قلة عدد الذين بحثوا وكتبوا عن تاريخ اهتمام الأوروبيين بدراسة اللغة العربية، وندرة الذين شرحوا أعمال المستشرقين، الذين بسببهم تنوّرت العقول في أوروبا، وعمت الفائدة من تعلم اللغة العربية، وآدابها الجميلة، وعلومها الجمة".

وقد عمل يوسف جيرا، في كتابه "تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا"، على إتمام ذلك النقص الذي رآه في هذا المجال، والذي واجهه كل من أراد الاطلاع على حياة هؤلاء المستشرقين وأبحاثهم.

وسعى "جيرا" في كتابه الذي صدر في طبعات عدة، لاستحضار صور أشهر المستشرقين، واستخرجها من جهات عديدة، ومتاحف مختلفة، وتمكّن  من إخراج هذا الكتاب جامعًا لكل ما يطفئ ظمأ الراغب في استطلاع أخبار هؤلاء المستشرقين وتراجمهم، محاولاً سد بعض الفراغ في تأريخ الإستعراب، مُسلطاً الضوء على من نشروا اللغة العربية في بلاد الغرب.

ثمار الحضارة الإسلامية

ونتعرف من الكتاب على أنه بالرغمِ من أن التمدُّنَ الأوروبيَّ الحديثَ يَدينُ بالشيءِ الكثيرِ لِمَا نقَلَه وتعلَّمَه الأجدادُ الأوائلُ مِنَ المستشرِقين الغربيِّين، الذين بذَلوا جُهدًا كبيرًا في تعلُّمِ اللغاتِ الشرقيةِ وآدابِها، خاصةً العربية، وهو الأمرُ الذي مكَّنَهُم من الاطِّلاعِ على ثمارِ الحركةِ الفكريةِ والعلميةِ للحضارةِ الإسلامية؛ فإن الكتبَ التي وُضِعتْ عن هؤلاءِ الروَّادِ الذين دَرَسوا اللغةَ العربيةَ قليلةٌ ولا تُغطِّي الكثيرَ مِنَ التفاصيلِ الهامَّةِ عن حياتِهم ودراستِهم وعمَّا قدَّموهُ من أبحاثٍ وتَرْجماتٍ مِنَ العربيةِ وإليها. وقد بذَلَ المستشرقُ النمساويُّ «يوسف جيرا» جُهدًا ملحوظًا في جمعِ معلوماتٍ وصورٍ عن أهمِّ المستشرِقين الأجانبِ الذين درَسُوا العربيةَ خلالَ عدَّةِ قُرون؛ ليقدِّمَها لَنا فِي هذا الكتابِ الصغيرِ والهام.

ويدلنا الكتاب على أن لغات الأمم الشرقية كانت مجهولة تقريبًا في أوروبا قبل الحروب الصليبية، وبحسب الكتاب فإن هذا بعجيب، إذا علمنا أن كافة العلوم، وعلى الأخص الدينية منها كانت وقفًا على الرهبان، بينما حُرم أصحاب الأمر والنهي والأمراء الأشراف حتى من معرفة القراءة والكتابة، أضف إلى ذلك السلطة التي كانت للباباوات في الكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت تبيح لهم السيطرة على كل شيء يختص بالكتب، وبمقتضى ذلك استطاعوا أن يمنعوا انتشارها مهما كان موضوعها، ولم يكن في استطاعة أحد أن ينشر أي كتاب إلا إذا كان باللغة اللاتينية، وبإذنٍ خاص من البابا، ويرجع فضل دراسة اللغات الشرقية في الحقيقة إلى المرسَلين المبشرين الموفَدين إلى البلاد الشرقية من لدن الباباوات؛ فهؤلاء هم الذين حملوا معهم عند رجوعهم إلى بلادهم تلك اللغات.

ويدلنا على اهتمام الرهبان بالكتب، وعنايتهم باستطلاع ما دوِّن في بطونها؛ أنهم كانوا يتحملون مشقة الترجمة أولًا، ثم يكتبونها بيدهم بصبر وجَلَد مهما استدعى ذلك من الوقت، ولم يكن فن الطباعة الذي ظهر في القرن الخامس عشر الميلادي بواسطة جوتنبرج، والذي عاد على البشر بأكبر فائدة، قد اكتُشف بعدُ، ولم يكن الراهب من أولئك الرهبان ليكتفي بإجادة الخط أثناء النسخ فحسب، بل إنه كثيرًا ما أضاف الزخرفة والألوان في كتاب اشتغل فيه طوال حياته.

ووفقا لنصوص الكتاب، فقد تطورت عقيدة المسيحيين من نحو الشرقيين بعد ظهور الراهب مرتين لوثر، فأخذوا في تعلم لغاتهم حبًّا في العلم لذاته، وخدمة للحقيقة، وميلًا لآداب اللغات، لا لغرض ديني أو سياسي أو تجاري كما يزعم البعض.

الشرقُ المنيرُ

ويؤكد لنا يوسف جيرا، في كتابه "تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا"، أن اللغة العربية، ذاعت شهرتها ولهجتها العذبة، حين بدأ الرهبان وبعض عظماء المسيحيين ينزلون إلى بلاد الأندلس وجزيرة صقلية وفلسطين؛ حيث شاهدوا هندسة المباني العربية البديعة الدالة على تمدْيُنٍ عجيب، وحين اطلعوا على النقود الإسلامية التي ضُربت بغاية الإتقان، بعكس ما كانت عليه نقودهم من البساطة، ومن ذلك الحين شرعوا في معاشرة العرب والتقرب إليهم، وقد كانت الكتب العربية التي نَقلت من مؤلفات أرسطو وأمثاله، من أهم البواعث على تشجيع النصارى في اقتطاف ثمار ما أنتجته المدنية الإسلامية أيام عظمتها، ومجدها، وقد فتحت مجلدات العلامة أرسطو عيون النصارى، كما فتحت عيون العرب قبلهم، فتسارعوا إلى استطلاع غوامضها سعيًا وراء اقتباس حكمة ذلك الفيلسوف.

اهتمام بأحوال الشرق

ونطالع على صفحات كتاب "تاريخ دراسة اللغة العربية بأوروبا"، أن معرفة أوروبا باللغة العربية، خلقت اهتماما لدى العلماء الأوروبيين بأحوال الشرق، وهنا جاءت فكرة المؤتمرات الشرقية في بلدان أوروبا، والتي يُعرفها مؤلف الكتاب بـ "المؤتمرات الشرقية العمومية" التي خُصصت لمناقشة الدراسات الخاصة بالشرق وحضارته، ولعرض اقتراحاتهم الصالحة في خدمة العلم، فكان ممن فكَّر هذه الفكرة العالم الفرنساوي ليون ده روزني.

وانعقد "المؤتمر الشرقي العمومي"  لأول مرة في مدينة باريس سنة ١٨٧٣، ودُعي إليه جميع مستشرقي أوروبا، وقد عُقد بعد ذلك عدة مؤتمرات شرقية في البلاد الآتية: لندن – بطرسبرج – فلورانس – برلين – ليدن – فيينا – استوكهلم – خريستيانيا – روما – جنيف. 

ودعا المؤتمر الثاني عشر بروما الكثير من علماء بلاد الشرق للحضور أيضًا بجانب مستشرقي أوروبا، فتكلم محمد شريف سالم أفندي في مستقبل اللغة العربية، وكان الأستاذ فولرز مدير الكتبخانة الخديوية بمصر إذ ذاك من الحاضرين، وتكلم علي بك بهجت المصري في تدابير شئون القطر المصري في القرن الخامس عشر، والأستاذ نالينو في علم النجوم ببلاد الحبشة، والأستاذ جرينرت من براغ في التثنية في اللسان العربي القديم.

ويقول يوسف جيرا، في خاتمة كتابه أن الباعث لدراسة اللغات الشرقية بالبلاد الأوروربية في أول الأمر، وخصوصًا اللغة العربية كان لأغراض دينية وحربية في القرون الوسطى، ولكنها تحوَّلت بعد ذلك إلى أغراض علمية، وبها فازت أوروبا في كشف ما تُكِنُّه العلوم والفنون الشرقية من الدُّرر الغوالي والكنوز الثمينة. وبتقدُّم دراسة لغات الشرق قد استحكم حبل المودة بين الشرق والغرب، وتلطَّفت العلاقات بين الدول الشرقية والغربية، سواء كانت علمية أو تجارية؛ ولذا فإننا نشكر هؤلاء المستشرقين الذين نبَّهوا الأفكار بتأليفاتهم، والذين كانوا سببًا في إدراك الحقيقة أن التمدن الأوروبي الحديثَ مبعثُه الشرقُ المنيرُ.



هل كانت هذه الصفحة مفيدة؟ نعم لا

من فضلك أخبرنا بالسبب (حدد خيارين كحد أقصى)

إغلاق Close

ابحث هنا