حجاج سلامة
تعددت المؤلفات والبحوث والمقالات التي تدور في فلك الإستشراق الذي يُعرف بأنه "علم الاستشراق"، أو "علم العالم الشرقي"، وكما تدلنا المصادر فإن كلمة مستشرق تُطلق على كل عالِم غربي يهتم بدراسة الشرق أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه.
ويعد موضوع الاستشراق موضوعا واسعا ومتشعبا يتناول كل ما له علاقة بالشرق من حيث اللغة والأدب والتاريخ والدين والحضارة وما إلى ذلك، ولم تكن ألمانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي اهتمت بالدراسات العربية والإسلامية إذ سبقتها دول أوروبية أخرى مثل فرنسا وانكلترا وهولندا، لكن الأستشراق الألماني – كما تؤكد المصادر العربية - امتاز بالموضوعية والعمق وساهم مستشرقوه أكثر من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية وخاصة كتب المراجع والأصول المهمة. (1).
وتعود بدآيات الإستشراق الألماني الى القرن الثاني عشر حين تمت ترجمة القرآن الكريم لأول مرة الى اللغة اللاتينية بتوجيه من بطرس المبجل "ريس ديركلوني"، وفي القرن التالي قام "رايموند لول" المولود بجزيرة مايورقة الأسبانية بتنفيذ قرارات كنسية بإنشاء مدارس لتعليم اللغة العربية، وقد عد البعض هذه الجهود وماشابهها بانها ليست استشراقا لأن مقاصدها لم تكن معرفية بل تبشيرية، وقد حاول كنسيون متنورين مابين القرنين الثاني عشر والرابع عشر تجاوز المرحلة الأسطورية في مكافحة الإسلام عن طريق الترجمة البدائية والمشوهة وهي كانت أدوات افعل من الكفاح العسكري والسياسي والثقافي بين الدينين والثقافتين. (2)
وقد شهد القرنان الميلاديان التاسع عشر والعشرون اهتماماً متزايداً من الباحثين الألمان بالدراسات الإسلامية بعامة وبالسيرة النبوية على وجه الخصوص، فقد ترجموا سيرة ابن هشام، وألفوا عن الرسول كُتباً حول حياته وتنظيمه للجماعة في المدينة المنورة، وعن مغازيه وتعاملوا مع التراث الذي يروي سيرته والشُروح والشُرّاح الذين تناولوا تلك السيرة في أصولها الأولى هذا فضلا عما كتبوه في دوائر المعارف والموسوعات والكتب المدرسية في هذا المجال بغض النظر عن قربهم أو بعدهم من النزاهة العلمية في التأليف.
ولا شك في أن المستشرقين الألمان، كغيرهم من المستشرقين الغربيين، قد وقعوا ضمن دراساتهم للإسلام وتاريخه وأعلامه في هنات وهفوات مقصودة أو غير مقصودة، فاساء بعضهم، وأحسن بعضهم الآخر في دراساته للتراث الإسلامي والدراسات الشرقية بصورة أعم. ومن هنا لا يمكن أن نعمم الحكم عليهم بالإساءة أو الإحسان بل إن أعمال الواحد منهم متفاوتة في القيمة العلمية ولهم إلى جانب دراساتهم تلك، جهود تذكر في التحقيق والتوثيق قد تكون لنا عليها ملاحظات، ولكنها تبقى على العموم إضافات للمكتبة العربية والإسلامية تستحق الوقوف عليها للإفادة والتقويم.
وقد ذهب كثير من الباحثين، إلى القول بأن الألمان تميزوا من بين المستشرقين الغربيين بالجدية والمثابرة، وكان لابد للدارسين المسلمين من تتبع دراساتهم وجهودهم في مجال الدرس والتحقيق والتوثيق. (3)
وقد عرفت المكتبة العربية، والجامعات والمؤسسات البحثية – كما أسلفنا - العديد من الإصدارات والدراسات، بجانب الأعمال العلمية التي جاءت كنتاج لبعض المؤتمرات والندوات، والتي دارت جميعها في فلك تاريخ البحث والتأليف في السيرة النبوية عن المستشرقين الألمان. وتبحث في مناهج المستشرقين الألمان في دراسة السيرة النبوية، ، وفي الترجمات الألمانية لكتب السيرة النبوية والسيرة في دوائر المعارف وتدرس الاتجاهات الحديثة في كتابتها، وما ألف عن الرسول باللغة الألمانية، وما كُتب باللغة العربية عن الاستشراق الألماني في دراسة السيرة، وجهود الألمان في تحقيق تراثها.
وكان للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، الكثير من الجهود المحمودة في هذا المجال. وقد اهتمت المنظمة فيما أصدرته من كتب، وما شاركت في تنظيمه من مؤتمرات وندوات، بالجانب النقدي للدراسات الألمانية السابقة في السيرة النبوية، والجانب الببليوغرافي الذي حصر قدر الإمكان، ما ألفه المستشرقون الألمان في هذا المجال، تحقيقا ودراسة باللغة الألمانية، ثم ما كتب عن الاستشراق الألماني باللغة العربية في مجال السيرة النبوية.
ويُشير الأكاديمي المغربي، الدكتور حسن عزوزي في دراسة له حملت عنوان "نبوة محمد ﷺ في فكر المستشرق الألماني تولدكه"، كانت نوقشت بأحد الندوات التي أقيمت بمشاركة منظمة الأيسيسكو، إلى أنه ربما كان المستشرق الألماني بوهان آدم مولر (1838 – 1796، أول من اعترف من العلماء الألمان باستقلالية القرآن بوصفه كتابا دينياً بنكهة خاصة به. بحسب قول "عزوزي"، الذي رأى ايضا، أن شيخ المستشرقين الألمان تيودور نولدکه (1930-1836) هو أبرز من اهتم بمصادر نبوة النبي محمد ﷺ في كتابه تاريخ القرآن.
كما اعتبر الدكتور حسن عزوزي، أن تحرر الدراسات اللغوية ودراسات علوم اللغة العربية من السيطرة الكنسية كان له دور في حصول تحول في الدراسات الاستشراقية، وقد أسهم في هذا التحول – بحسب قوله - كبار عشاق الشرق ولغاته من المستشرقين وخاصة الألمان منهم أمثال جوزيف فون هامر بورغستال (1856-1774)، وفريديريك روكرت (1866-1788). (4)
وفي دراسة له حملت عنوان "ملامح المنهج المادي الإسقاطي في كتابة السيرة عند المستشرقين الألمان: نموذج فلهاوزن"، قال الكاتب والباحث المغربي الدكتور إدريس مقبول، إن الدراسات العربية والإسلامية في ألمانيا بدأت في زمن متأخر مقارنة بباقي الدول الأوربية، ولم تنشط إلا في القرن الثامن عشر.
وأضاف بأن هذا الاستشراق تميّز بأمور منها الاهتمام بالقديم والتركيز على دراسة التراث العربي تحقيقا وجمعا وفهرسة ودراسة. ومن هذا التراث السيرة النبوية.
ونوّه الدكتور إدريس مقبول، إلى نشر فيردناند فستنفيلد لسيرة ابن هشام سنة 1858-1860 والتي نقلها إلى الألمانية المستشرق جوستاف فايل سنة 1864. وتناول "جریمه" لسيرة النبي في مجلدين، وبيّن أن بعض الدراسات الألمانية للسيرة النبوية طابعا فلكلوريا يمزج الأدب الشعبي والخرافات بأحداث التاريخ.
وهكذا تتعدد الآراء، ويتنوع طرح العلماء والكتاب والباحثين في تناولهم لموضوع السيرة النبوية في الكتابات الألمانية، والتي كان من مظاهر الإهتمام العربي بها مجموعة من التوصيات التي أجمع عليها مجموعة من الباحثين، ونشرتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، في إصدارتها حول الإستشراق.
وقد جاء من بين تلك التوصيات، التعامل مع رموز الاستشراق الألماني بالهدوء والرؤية، واعتماد ضابط العقل والعلم والرؤية الواضحة في الحوار.
وضرورة نهج أسلوب الاجتهاد والتفاني في العمل من أجل معرفة الآخر، والآخر الألماني خاصة، مع تحديد الرؤية ووضع البرنامج والأولويات.
والتفكير في إحداث وحدات متخصصة في الدراسات الألمانية في الجامعات العربية والإسلامية تكون منفتحة أكثر على الكتابات المنصفة خصوصا منها ما اتصل بالثقافة والفكر واللغة.
وإحداث شعبة للاستغراب في جامعات العالم العربي والإسلامي مقابل شعبة الاستشراق في الجامعات الغربية، وفتح جسور التعاون مع المؤسسات الألمانية.
وإعداد موسوعة في السيرة النبوية محققة ومحكمة. وإحداث وحدات بحث علمي متخصصة في نشر مخطوطات السيرة النبوية. وفتح مسارات أمام الباحثين لنيل درجة الدكتوراة في السيرة النبوية في الدراسات الاستشراقية الألمانية.
وإصدار دليل ببليوغرافي للتعريف بالدارسين الألمان والدراسات الألمانية في موضوع السيرة النبوية.
وإنشاء كرسي للسيرة النبوية تكون أهدافه في تصحيح المفاهيم المغلوطة ورد الشبهات المغرضة.
والعمل على خلق دور نشر مختصة في ترجمات الكتابات الألمانية إلى العربية وبالعكس.
إحالات:
- تاريخ الأستشراق الألماني في القرنين التاسع عشر والعشرون.. دراسة تاريخية - د. زينب عبد الحسن الزهيري – مجلة كلية التربية الأساسية – جامعة بابل – العدد التاسع.
- كتاب السيرة النبوية في الكتابات الألمانية: أشغال الندوة الدولية التي نظمت بمدينة فاس المغربية حول السنة والسيرة وقضايا الإعجاز – إصدارات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (أيسيسكو) – 1432 هجرية / 2011 ميلادية.
- مصدر سبق ذكره.
- بحوث الندوة الدولية حول السنة والسيرة وقضايا الإعجاز – مدينة فاس المغربية – فاس عاصمة للثقافة الإسلامية 2007.
- المصدر السابق.